حين يُنهي الطالب أو الطالبة تعليمه الثانوي في كثير من الدول العربية والإسلامية، يكون بذلك قد انتهت صلته الرسمية تماماً بمصدر مهم، من الناحية النظرية، لتعلم دينه، ما عدا من ينتسب إلى كليات العلوم الشرعية.
فهل الطالب والطالبة بعد المرحلة الثانوية لا يحتاج كل منهما في تعليمه الجامعي إلى تعلم دينه وقيم الإسلام وأخلاقه، ألا يحتاج إلى همزة وصل تربط بينه وبين تعلّم الإسلام، أليس هو أو هي في هذه المرحلة التي سيُقبل عليها في الجامعة أشد حاجة وأكثر افتقاراً لأنوار الهداية مما قبلها من مراحل التعليم؟!
بالنظر إلى تلك المرحلة الجامعية التي تتخلى فيها جهات التعليم الرسمية عن تعليم الشبان والشابات رسمياً دينهم، ومقارنتها بما قبلها من مراحل التعليم، والتي ترتبط في الوقت نفسه بمراحل النمو، نجد أنها أخطر مرحلة عمرية يحتاج فيها المسلم إلى الارتباط بدينه، ومعرفة عقيدته، وتعلم الأخلاق الإسلامية، إذ هي المرحلة التي تكتمل فيها إدراكاته وتتبلور تجاه العالم الخارجي، وتنضج فيها غرائزه وشهواته، وتبرز فيها مشاعره وإحساساته، والمرحلة الجامعية هي أول مرحلة يحتك فيها الشاب أو الشابة بالمجتمع بصورة حقيقية وقوية، حيث يتولى القيام وحده بجزء كبير من مصالحه الشخصية، وهي المرحلة التي تكون لعلاقاته وصداقاته فيها أثر كبير على حياته ومستقبله، وإذا كان حال الشبان والشابات في هذه المرحلة هكذا، وكان دور الأسرة في الوقت نفسه يأخذ في الانزواء وضعف التأثير، من حيث الواقع، لظهور مؤثرات جديدة وقوية في حياة الشاب أو الشابة؛ فكيف يتركه المجتمع دون توجيه أو تربية؟! هل يعقل أن تكون المرحلة الخطيرة التي يصل إليها الشاب أو الشابة في هذه السن هي المرحلة التي تتخلى فيها دولته ومجتمعه عنه؟
بل نستطيع أن نقول أن الشباب في جامعاتنا يتعرض لهجمة منظمة لتعديل الفكر ليكون شبيها بالفكر الغربي في طريقة تناوله وتعامله مع الكون والحياة, ويدعوهم إلى طريقة مادية في التفكير لا يكون للدين فيها أي أثر, ففي الكليات النظرية تدرس نظريات فرويد ودوركايم وأوجست كونت وجان جاك روسو وغيرهم وكثير من الدراسات حول نظرياتهم بطريقة غير مقيدة ولا موجهة بما يناسب انتماء هؤلاء الشباب لعقيدة مميزة هي عقيدة الإسلام, وفي الكليات النظرية يغلب المنهج التجريبي على التدريس للطالب بحيث ينسى الطالب التوجيه المعنوي إلى حد كبير ويصبح تفكيره جامدا نحو النظريات المعملية وما شابهها..
هذا بالإضافة إلى كثير من القصور الذي يلازم الكثير من مؤسسات التعليم الجامعي والمعاهد في عالمنا العربي وكثير من البلاد الإسلامية، من حيث المنهج التعليمي، والنظم الإدارية، إذ تعد العديد من هذه المؤسسات في بلادنا متخلفة حسب المعايير العالمية بصورة كبيرة أو بالقياس إلى مؤسسات التعليم في الدول المتقدمة؛ فهناك انحرافات ومشكلات وأزمات تواجه طلاب وطالبات الجامعات في تلك المرحلة يرجع السبب الرئيس فيها إلى فقدان التربية الدينية. (انتشرت أزمة الزواج العرفي مثلا في الجامعات انتشارا لازال يستعصي على الدولة حله).
والمؤسف حقاً أنه حين تنبه الناس لمنهج الدين في المدارس تنبهوا له مشيرين نحوه بأصابع الاتهام، بعد رميه بتهمة التطرف، فأقبلوا تحت شعار التطوير لكي يزيدوا من جفافه، ويبتعدوا به عن أداء دوره في تنشئة الأجيال، ولم يكفهم أن المناهج القديمة لا تكفي ولا تؤثر، بل راحوا يزيدون تلك المناهج تشويهاً وبتراً، ليخرجوا لمجتمعاتهم المسلمة بمناهج عرجاء، حتى صارت صلة كثير من المسلمين بتعاليم دينه وقيمه وأخلاقه ضعيفة، فظنوا أنهم هكذا قد جففوا منابع التطرف وحموا المجتمع من شره، مع أن تجفيف مناهج التربية الدينية يؤدي إلى الجهل بالدين، والجهل بالدين من أسباب التطرف والغلو.
وليست التربية الدينية بأقل أهمية ولا هي أدنى شأناً من تعليم اللغات الغربية مثلاً، والتي تكاد تكون عاملاً مشتركاً في جميع مراحل التعليم الآن في أغلب المجتمعات الإسلامية، من مرحلة الحضانة حتى آخر مراحل التعليم الرسمية وغيرها، كما أن التربية الدينية قد لا تكون بحاجة إلى المساحة الكبيرة التي تخصص للغات الغربية في مناهج التعليم، فإذا كان واضعو المناهج التعليمية قد وجدوا المكان فيما يضعون من مناهج لتعليم اللغة على اختلاف تخصصات التعليم الجامعي، فلا أحسب أن تخصيص مكان للتربية الدينية العامة سيسبب مشكلة، بل على العكس، وضع التربية الدينية في التعليم الجامعي سيحل مشكلات خطيرة وكثيرة، فضلاً عن كونه واجب من واجبات الدولة نحو أبنائها في هذه المرحلة الخطيرة.
قد تتضح خطورة الإهمال الكبير في تقرير التربية الدينية في المرحلة الجامعية بصورة أكبر؛ إذا علمنا أن المراحل التعليمية السابقة، على الرغم من وجود التربية الدينية فيها بصورة أو أخرى، تكاد التربية الدينية فيها أن تكون بلا تأثير ولا أثر، فكم من الشبان والشابات بعد مرحلة التعليم الثانوي يعرف أركان الإسلام، وكم منهم من يلتزم بالصلاة ويفقه أحكامها، وكم منهم من يعرف أركان عقيدته، وكم منهم من تربى على القيم الإسلامية الأصيلة والهدي النبوي القويم!
إن الشبان والشابات الذين ما يزالون في تلك المراحل، أو الذين تخرجوا منها ليذهبوا إلى مرحلة التعليم الجامعي، يعانون أمية دينية شديدة، وجهالة بالإسلام كبيرة، والكلام هنا لا يدور عن أحكام وتعاليم لا يفهمها إلا المتخصصون، بل عن أوليات الإسلام وأساسياته، التربية الدينية في المراحل قبل الجامعية لا تسد حاجة الأطفال والمراهقين الدينية الإسلامية، ولا تفي بتنشئة المسلم والمسلمة النشأة الصحيحة السليمة.
هذا بالإضافة إلى ما يحيط بتدريس التربية الدينية في مراحل ما قبل المرحلة الجامعية من قصور وسلبيات، وما تتعرض له مناهج الدين والثقافة الإسلامية والتاريخ الإسلامي في المدارس من تشويه وبتر تحت الضغط الأجنبي الخارجي، فمن حيث المنهج، فهو منهج مخفف يقدم ثقافة إسلامية تركز على مفهومات معينة، وفي كثير من الأحيان تكون خاضعة لتوجهات سياسية خاصة، كما لا يوجد اهتمام به غالباً مثل باقي المواد، فحصة الدين غالباً ما تكون في آخر اليوم الدراسي، كما أنها تكون مرة واحدة في الأسبوع كله. ومن حيث التدريس فهذه المادة لا يقوم على تدريسها متخصصون، كما هو حال بعض البلاد العربية، بل يقوم بتدريسها مدرسو اللغة العربية، ولذلك تعتمد قيمتها ونتائج تدريسها على مدى ثقافة المدرس أو المدرسة، والتي غالباً ما تكون ضحلة لا تفي بحاجة الطالب من الاستفهامات والاستفسارات والأسئلة؛ لأن المدرس أو المدرسة قد مر بمراحل التعليم نفسها التي لا يوجد اهتمام فيها بتعليم الدين بصورة صحيحة جيدة.
فكيف يمكن أن يتعلم الأولاد دينهم من حصة واحدة أو حصتين في الأسبوع، قد يأخذها مدرس الرياضيات أو اللغة العربية ليكمل ما لديه من نقص في منهجه، أو يجلس فيها المدرس ليستريح من عناء اليوم الدراسي، ولا سيما أن حصص الدين تكون في آخر الحصص، متى يتعلم التلميذ تلاوة القرآن الكريم، وأين يتعلم أحكام الإسلام الأساسية التي تتعلق بأركان العقيدة وأركان الإسلام؟ لا يمكن أن يعوض دور المدرسة وسيلة أخرى، لأن حياة الطالب في هذا السن تكون مرتبطة أشد الارتباط بالمدارس، وبما يتم وضعه من مناهج تعليمية لها، كما أن الأطفال في هذه السن لا ترقى عقولهم إلى المستوى الذي يتيح لهم فهم كثير من الخطب والدروس في المساجد أو وسائل الإعلام، لو قلنا أنها تفي بأن يتعلموا منها دينهم.
إن إهمال التعليم الديني في المدارس والجامعات له آثار سلبيـة خطرة، من التخلف الحضاري، وضياع الهوية، وضعف القوة، وانحلال المجتمع، ووقوعه عرضة للتيارات الفاسدة، فهو يؤدي إلى خروج أجيال بعيدة الصلة عن دينها، لا انتماء لها ولا هوية، جاهزة لتشرب الأفكار الباطلة والمذاهب الضالة والأخلاق المنحرفة، وهذه بعض الأسباب التي أرى أنها تؤكد وتبين مدى ضرورة التربية الدينية وأهميتها في المرحلة الجامعية:
1- فالتربية الدينية في المرحلة الجامعية من أساسيات تكوين شخصية المسلم والمسلمة، وإعداد المواطن الصالح والمواطنة الصالحة، وهذا في حد ذاته سبب كاف لإضافة التربية الإسلامية إلى مناهج التعليم الجامعي.
2- كما أن للتربية الدينية الدور الأول والأساسي في الحد من انحرافات الشبان والشابات الشخصية في هذه المرحلة، كترك الصلاة، وتعاطي المخدرات، والاختلاط، والمعاكسات، وغيرها.
3- كما أن العلوم الطبيعية في حاجة ماسة للأساس الأخلاقي المبني على العقيدة الصحيحة، فضياع الأساس الأخلاقي المهني مثلاً يؤدي إلى انتشار الجرائم والانحرافات المهنية، مثل الغش والاستغلال، وعدد من الجرائم التي تنتشر في المجتمع، إنما تصدر من متعلمين ذوي تخصصات علمية، كالطب والهندسة والمحاماة على سبيل المثال لا التخصيص، مثل جرائم الإجهاض والغش والتزوير.
4- والتربية الدينية حماية للشبان والشابات في هذه المرحلة من الأخلاق المنحرفة، والتي تجتاح العالم الإسلامي، وتغزو المسلمين في عقر دارهم بسبب التقدم الكبير في وسائل الاتصال ووسائل الإعلام.
5- كما أن الشباب في هذه المرحلة يبدأ في إدراك قضايا الأمة الإسلامية، ويتفاعل مع القضايا العامة التي تمر بها، ولا بد في هذه المرحلة من توجيهه في التعامل مع هذه القضايا، وتعليمه الأسس التي يبني عليها مواقفه الصحيحة.
ليس المقصود بالدعوة هنا لتقرير منهج للتربية الدينية في المرحلة الجامعية؛ أن تكون تلك المناهج منبتة الصلة بالواقع، بعيدة عن مشكلات الشبان والشابات وحاجاتهم، بل من المهم أن يتصف منهج التربية الدينية بالحيوية، ويستعمل في تدريسه الوسائل الحديثة المناسبة، التي تيسر فهمه، ولا بد أن يشرف عليه متخصصون يراعون المرحلة التعليمية ومتطلباتها والحاجات العمرية للطلاب، ولا بد أن يفسح المجال لكي يكون الدين مرتبطاً بمناهج التعليم في المواد الأخرى، حتى لا نقطع الصلة بين الإسلام والحياة، فليس المطلوب بتقرير التربية الدينية في المرحلة الجامعية أن تقدم تعاليم الدين وتتم التربية الدينية في هذه المرحلة الجامعية بالأساليب المعتادة، كما هو الحال في المناهج النظرية التي تعرض الدين بصورة غير جذابة ولا تناسب المخاطبين بها من الشباب، بل من المهم أن تكون قريبة من اهتمامات الشبان والشابات، سهلة الأسلوب، في صورة عملية تتعلق بأهم القضايا التي يحتاج إليها كل شاب وشابة في تكوين شخصيتهما الإسلامية، ويجدا في هذه المادة الإرشادات والتوجيهات التي تعينهما على السير في هذه المرحلة من العمر بنجاح.
إن بناء المجتمع القوي يبدأ من تعليم الدين، والتربية الدينية الإسلامية حين ترتبط بالتعليم في جميع مراحله؛ هي أول الأسباب المهمة التي تغرس أسباب الصلاح والقوة في نفوس الشباب، وتعصم المجتمع من كثير من الأمراض والمشكلات، حيث يكفل المنهج الإسلامي، حين يُقدم بصورة متكاملة وافية، بأن يخرج للأمة أجيال المستقبل، الأجيال القوية التي تصنع التقدم وتبني المجد.
وإذا كان تطوير المناهج التعليمية هدفاً صادقاً، فلا بد أن يكون هو التطوير الذي يعيـد إليها ما فُقـد منها، وهو التربية الدينية، لكي يكون التطوير خطوة حقيقية في تشييد بناء قوي للمجتمع المسلم.